هل لاحظتَ من قبل عُشبًا يشق طريقه بين الصخور الصلبة أو في أغرب الأماكن غير المتصورة حتى كدتَ تقول: ماذا يفعل وحده هنا؟ قد ضلّ طريقه؟
في مدينة سريبرينيتسا المنكوبة بالمقتلة في البوسنة والهرسك، رأيتُ خضارًا ينبت من داخل أحذية المفقودين المتروكة حيث فقدوها في الغابات على درب الموت قبل ثلاثين عامًا، تحديدًا في عام 1995.
المشهد عجزتُ عن تفسيره. قد تراها مقاومةً، وحبًّا للحياة رغم الظروف، وكأن العقل أو الإرادة الخفية تُحرّك النبات وتدفعه نحو البقاء والتكيف مع المتغيرات. تُشبهنا الزهور في تلمُّس طريقها في عتمة الظلام، وتواجه العقبات نفسها التي تعترض طريقنا. تُحبطها نوايا الآخرين السيئة كما الناس، وتتخبط في زوايا المجهول. تذوق مرارة خيبات الأمل كما البشر، وتحسّ طعم الانتصارات المغموسة بالمعاناة والألم، مع تحلّيها بالصبر والمثابرة وحبّ النفس والذكاء المتقد.
يبدو الكلام شاعريًا أكثر منه حقيقةً، ولكن بعكس ما قد يبدو عليه عالم النبات من سكون وتسليم، وأنه كائنٌ حيٌّ قابع في خانة المفعول به لا الفاعل، إلا أن الناظر سيرى أن النباتات تضرب للبشر أروع الأمثلة في التمرد، ومواجهة الظروف القاسية، والتحلي بروح الشجاعة والمثابرة، والقدرة على الابتكار. البذور مثلًا تستميت في محاولاتها للتخلص من أسر القهر والخروج إلى رحابة الفضاء، والأغصان المتكسرة تجتهد بشدة للبحث عن ضوء الشمس، حتى الأشجار المهددة بالفناء تناضل بشجاعة وذكاء لمقاومة القدر، أما زهرة الأوركيد فتتجلّى فيها أوضح مظاهر ذكاء الزهور لقدرتها على إجبار الفراشات والنحل على تنفيذ رغباتها وأوامرها في الزمان والمكان الذي تريد.
في منطقة «بروفانس» الفرنسية العامرة بالوديان والتلال، حيث تسود مملكة النبات ونهر هادر من الزهور على مد البصر يتدفق بألوان الشباب والصحة والسعادة، تأمل الشاعر والفيلسوف البلجيكي النوبلي موريس ميترلينك، أحد أكثر الكُتّاب تأثيرًا في أوروبا في مطلع القرن العشرين، في سيرة ذكاء الزهور مطلع القرن العشرين، ربما لأن «أعظم العجائب تشرق في نور عالم الزهور وحده»، وإن كانت إشارات هذا العالم قد تكون مجرد إشارات طفيفة لذكاء الطبيعة إذا ما قورنت بعالم الجبال والبحار والنجوم، حال وُجد من يتصدى لإصغائها كما أصغى ميترلينك للزهور.
خلص الفيلسوف البلجيكي من تأملاته بكتاب في الأزهار يبدو ولأول وهلة كتابًا علميًا جامدًا، إلا أن «ذكاء الأزهار» عملٌ أدبي يأخذنا في رحلة عميقة إلى عالم الطبيعة المدهش لنستكشفها. وهو أيضًا يعكس فلسفة ماترلينك التي تميل إلى التفكير في الغموض والروحانية في الحياة اليومية والعالم الطبيعي. فكما حلل الكتاب الذكاء النباتي وتناول الأزهار والتطور والعلاقة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها، أولى كذلك اهتمامه بالقضايا المتعلقة بدورة الحياة والموت في الطبيعة، معتبرًا حياة الأزهار تمثيلًا للطبيعة المتغيرة والزائلة، حيث يعيش كل كائن في تناسق مع النظام البيئي الأكبر، لكنه أيضًا محكوم بحتمية الفناء.
ربما أقصى ما يمكن للناظر غير المتخصص أن يرى الزهور كائناتٍ حيّةً، فمن الماء خلق الله كل شيء حيّ، لكن الكتاب المنشور عام 1907 وترجمه إلى العربية أحمد الزناتي لـ«منشورات حياة» يذهب إلى أبعد من ذلك. يقول إن الزهور تفكر بنفس طريقة تفكيرنا، وإن لكل زهرة طريقة تفكيرها، ونظامها، وتجربتها المكتسبة التي تجيد استغلالها. أمثلة رائعة يقدمها الكتاب حول كيفية تفاعل النباتات مع البيئة المحيطة بها. يتحدث عن كيفية جذب الأزهار للحشرات من خلال الألوان والروائح، وكيف تطورت أشكالها لتسهيل عملية التلقيح التي وصفها بعملية تجري «بأمر الحب». كما يناقش كيفية دفاع النباتات عن نفسها ضد الأعداء الطبيعيين من خلال تطوير خصائص معينة مثل السموم أو الأشواك أو حتى التسليم للراعي الصالح الجديد والتخلص من أسلحتها الدفاعية تدريجيًا عند تربية الإنسان لها. هذه التفاصيل الدقيقة تظهر أن النباتات ليست مجرد كائنات سلبية تعيش على موارد الطبيعة، بل هي قوى فاعلة تطور نفسها بطرق معقدة وذكية.
يحتوي الكتاب على معلومات علمية حول سلوك الأزهار والنباتات، إلا أن الروح الأدبية التي قُدّمت بها هذه المعلومات بعيدة عن الأسلوب العلمي الجاف، وداعية للتأمل في أنماط الحياة المختلفة التي تعيش بجانبنا، والتي قد تكون لها أسرار وحكم تتجاوز معارفنا المعتادة. كما تحث على احترام الكائنات الصغيرة التي تُظهر إبداعًا وحكمة في كل خطوة من حياتها، بل والتعلم منها في بعض جوانب التنظيم والتكيف مع ما يطرأ من مستجدات تحقيقًا لمبدأ «الطبيعة معلمٌ للبشرية».
نقرأ: «مشهد تفجّر طاقة النباتات وهي تخرج من عتمة الجذور إلى نور الحياة كيما تنظم نفسها وتفتح براعمها، هو مشهد لا يُضاهى في روعته، مشهد تحشد فيه النباتات كل طاقاتها لتحقيق غاية واحدة فقط، ألا وهي الهروب من الموت المحقق في باطن التربة إلى الحياة النابضة فوق سطحها، ومراوغة تجاوز القانون المظلم الكئيب والخروج عنه. هنا تناضل بذور النباتات لأجل تحرير ذاتها، ولأجل كسر المجال الضيق، ولأجل اختراع أجنحة أو الضراعة لأن تنمو لها أجنحة، فنحاول الهروب بشتى السبل، وتسعى إلى كسر الأغلال التي قيدها فيها مصيرها، محاولة الاقتراب من مملكة أخرى وولوج عالم جديد نابض بالحياة».
من الأزهار إلى عبيرها، ينتقل الكتاب في جزئه الثاني إلى حاسة الشم التي يعتبرها الكاتب حاسة رفاهية تأتي بمتعة خالصة، لأنها تخلو من المنفعة المادية المباشرة، وتُشبع صاحبها بالرضا غير الخاضع لمبدأ الضرورة، منتهيًا إلى أن الروائح الزكية هي زينة هواء الدنيا ورحيق الخلود، أما جمالها فحدّث ولا حرج من بهجة وإغواء حسّي في الألوان والروائح نتقوى به على وحشة العالم. حتى مُخيلتنا عن الجنة وما ورد عنها في كتب الله أن لونها الغالب هو الأخضر بنباتاتها وأشجارها الشامخة ومناظرها الجمالية، التي نُقرّبها إلى الطبيعة المشهودة في الدنيا ليس تشبيهًا وإنما محاولة لإدراك المُنتظر.
ربما لو تزين الكتاب بصور أبطاله لجلب المزيد من المتعة، لكنه يظل محفزًا على التفكر في الجوانب الخفية للطبيعة المذهلة الدالة على عظمة خالقها أو «الروح الكونية العظمى» بحسب تعبير ميترلينك، كما أنه دعوة إلى التواضع أمام عظمة الطبيعة وذكائها الفطري الخفي، وتكريم للجمال البسيط والعميق الذي تحمله النباتات. لا شك أن نظرتنا للأزهار في الحديقة ستختلف بعد قراءة هذا العمل الذي وصفه الملحق الأدبي لجريدة «التايمز» البريطانية بأنه «درة نادرة مكتوبة في هيئة نثر غنائي رشيق العبارة»، وأننا سنراها أكثر من مجرد منظر جمالي ورائحة زكية.